عندما شاهدت الجزء الأول من فيلم “آفاتار” طالعت عن نيّة لإنتاج أجزاء أخرى منه، وجال بذهني سؤال ما الذي يمكن إضافته؟ فالشعور الذي تولد لدي حينها أن الفيلم متكامل ولا شيء يمكن إضافته، ربما من ناحية القصة هو ليس ثوريًا أو أصليًا تمامًا، لكن التجربة ككل متكاملة وممتعة، وتغطي تقريبًا كل الجوانب، القصة الجيدة، الشخصيات، الإخراج والترفيه، والكثير من الأكشن، والأهم هو المتعة البصرية والانبهار باكتشاف عالم جديد يشبه عالمنا، لكنه بصريًا أكثر ثراءً وأنقى مع تقنيات تصوير وسرد قصص تصل إليها السينما لأول مرة.. ثم جاء الجزء الثاني ليضاعف التجربة الأولى أكثر فأكثر!
استكشاف باندورا
ما فعله جيمس كامرون في تصور كوكب باندورا وشكله وما يحتويه أمر لا يمكن وصفه سوى بالمذهل، ففي حين تعاني هوليوود من موجة أفلام الأبطال الخارقين وشح القصص الأصلية والعوالم المثيرة الفنتازية كما فعل سيد الخواتم وهاري بوتر، يأتي “آفاتار: طريق الماء” أو “أسلوب الماء” بنفس جديد يعزز من عالم الجزء الأول، فطوال الوقت يعرفك على أشياء جديدة كل مرة وبشكل مقنع جدًا ومترابط ولا تمتلك سوى أن تعجب بخيالهم، من بداية الفيلم إلى نهايته وأنت تستكشف باندورا والحياة فيها وكائناتها، لكنك أيضًا تسكتشف أشياء جديدة بخصوص سكان كوكب الأرض ومقدراتهم وتطورهم والتكنولوجيا التي وصلوا إليها.. حتى أنه في أحد اللقاءات برر كاميرون مدة الفيلم الطويلة كان سببها رغبته في فسح المجال للمشاهدين بالاستمتاع بهذه العوالم، لا حاجة للتركيز فقط على القصة وأحداثها، لندع المشاهدين يستمتعون بالكوكب وعالمه وكائناته.. لنأخذ مساحة للغوص في باندورا والاسترخاء.
كاميرون التكنولوجيا والإنسان والهوس بالماء
هذا يقودنا إلى أن لُب هذا الفيلم هو خبرة وهوس كاميرون بالماء، فتقريبا معظم أفلامه تدور حول الماء، وأحد أولى أفلامه بالأساس كان محوره الماء وأسماك البيرانا القاتلة، مرورا بفيلم تايتانيك، وحتى إنتاجه لواحد من أفلامي المفضلة Sanctum والذي يتناول رهاب الأماكن المغلقة ولكن في الكهوف المائية، حتي فيلمه الشهير Terminator 2: Judgment Day نجد أن الألة القاتلة المرسلة من المستقبل T-1000 تتحول إلى معدن سائل يتحرك مثل الماء ويتشكل بالطريقة التي يريدها، بل إنه قاد غواصة من تصميمه لإستكشاف أعمق نقطة في المحيط! أيضًا رؤية كاميرون بأن صناع الأفلام من مهتمهم تطوير طرق سرد القصص من خلال التقنيات الجديدة، فما فعله في الجزء الأول أحدث نقلة في إخراج وانتاج الأفلام، وقدم مساحة إضافية لسرد القصص سينيمائيا.. وهو ما فعله مجددًا في الجزء الثاني، حيث صار بالإمكان تصوير والتقاط حركة الممثلين وتعابيرهم بشكل دقيق تحت الماء!
وهذا طرح معه فكرة أن الممثلين أو المؤدين (Performers) بحسب ما يصفهم به كاميرون سيكونون وسلية فقط في سرد القصة، يمكنك الآن أن تخلق عالمك الخاص، بل يمكنك أن تصيغ قصتك الخاصة بأقل التكاليف لهذه التقنيات التي حتمًا ستصبح متاحة في المستقبل، ربما لن تحتاج إلى ممثلين، ربما ستقوم أنت بالتمثيل ،وآداء كل الأدوار وستتولى التكونولجيا تشكيل الجانب البصري! .. لك أن تتخيل!!
شخصيات أكثر قصة متشعبة أكثر:
(هنا حرق للأحداث)
مثل فيلم 1917 الذي تحدثنا عنه، التركيز إعلاميا على التكنولوجيا والتصوير المذهل والمشاهد البديعة لكوكب باندورا يقصي بشكل ما الجوهر الأساسي من الفيلم وهو القصة نفسها، نحن نذهب للسينما للاستمتاع بالقصص وليس لمشاهدة التقنيات المتطورة، والتي وجدت فقط لتخدم القصة وليس العكس، لا يجب أن تُظْلَمَ قصة الفيلم فقط بسبب التقنيات والابهار البصري.
تتناول القصة كوكب باندورا بعد 13 سنة من انتصار سكان الغابات الـ “نافي” على البشر الغزات للكوكب وقتل “العقيد مايلز كواريتش” الذي يرى أن البشر أقوى وأرقى من السكان المحليين وفي داخله يرفض الهزيمة شأن أي قائد عسكري، خاصة عندما يتنكر له أحد جنوده بطل القصة “جايك سالي” الذي يحارب إلى جانب أصحاب الأرض وينتقل لاحقًا بشكل نهائي من جسده البشري إلى جسد سكان الغابات، وكوَّن لنفسه عائلة صغيرة من شابين مراهقين وفتاة صغيرة، وأيضًا تبنِّي قبيلته لطفل بشري نكتشف أنه ابن “العيقد كواريتش“! ولا يكشف عن اسم والدته ومن تكون. بالإضافة إلى مولودة غير متوقعة جاءت من رحم العالمة “جرايس أوغستين” التي توفيت في الجزء الأول عند محاولة إنقاذها عند شجرة الأرواح، لا يكشف هذا الجزء عن والد هذه المولودة المسماة “كيري” ولا كيف جاءت إلى العالم!
نجدنا في هذا الجزء نتعامل مع بطولة جماعية، حيث لا يوجد بطل واحد فقط مثل الجزء الأول والذي هو “جايك سالي“، يقسم الفيلم الأحداث بين الجميع، فلكل شخصية محورها المهم من الأحداث، يركز جيمس كاميرون على فكرة العائلة حين يتناول تطور شخصية “جايك سالي” بعدما كوَّن عائلته أين يقرر أنها الشيء الوحيد الذي يتوجب عليه حمايته، فدوره كمحارب وقائد قبيلة قد ولّى، ويرى أن البشر لن يتركوه فيه حاله أبدًا، وبين زوجته “نايتيري” المنقسمة بين انصياعها لزوجها وحماية عائلتها، وبين المحاربة ضد العدو وغزوه، وبين أطفالهم المراهقين الأخوين “ناتايام” و”لواك” ورغبة الأخ الأصغر الغاضب في إثبات نفسه لأن والده معروف عنه بأنه مقاتل طرد البشر الغزاة من كوكب باندورا، في حين أن أخاه الأكبر “ناتايام” يحاول أن يكون قدوة له وأن ينفذ أوامر والده في محاولة حماية العائلة.
ثم قصص ثانوية يتوضح جليًا أن هناك أحداثًا محورية ستكون بشأنها في الأجزاء القادمة من “آفاتار“، “سبايدر” الفتى ابن “العقيد كواريتش” الذي عاش بين سكان الغابات، لكنهم دومًا ينظرون إليه كإنسان وأنه من سكان السماء، وأنه دومًا سيبقى ابن العقيد القاتل “كواريتش”، وأيضًا نرى قصة غامضة تتشكل بشأن “كيري” الفتاة الغريبة التي تستطيع الشعور والتواصل مع “آيوا” تلك القوة البيولوجية الغامضة التي تنظم وتوجه الحياة على كوكب باندورا، بل حتى كائنات “التولكون” والتي تشبه الحيتان على كوكب الأرض لها قصص خاصة بها تؤثر بشكل جذري في مجرى الأحداث، بل معها كانت واحد من المشاهد المؤثرة التي جعلت الفيلم عاطفيًا جدًا ومؤلما للمشاهدة.
التركيز في هذا الجزء مقسم على محورين، عائلة “سالي” واسكتشافها لعالم الماء والبحار والمحيطات والتعرف على سكان آخرين، وبين عودة البشر لترسيخ وجودهم ونيتهم في الاستقرار على كوكب باندورا بأي وسيلة من خلال استنساخ “العقيد كواريتش” في جسد سكان الغابات، وانقسامه بين تحطيم “جاك سالي” وعائلته وبين ارتباطه بـ “سبايدر” واعتباره ابنه!
قد لا تجد القصة أصلية مائة بالمائة، لأنها تسير علي نفس نمط الجزء الأول بين الهرب ومحاربة العدو الغازي والانبهار بالكوكب الجديد، لكن العالم الفريد وطبيعة كوكب باندورا المختلفة عن كوكب الأرض حيث كل شيء مترابط ويحدث لسبب، وبين قصص الشخصيات كلها تجد نفسك ترى صورة أشمل وهي كوكب باندورا ومصيره وليس فقط عائلة “جايك سالي“.
الجزء الذي أزعجني:
هناك بعض التفاصيل في الفيلم لو تجاوزتها وتقبلتها دون نقاش ستستمتع بالفيلم حتمًا، لكن عقلي لا يستطيع تقبل السذاجة في بداية القصة أين ظهر “سبايدر” ابن “العقيد كواريتش” وكأنه مقحم في القصة، بل حتى أن آداء الممثل Jack Champion لشخصية “سبايدر” كان متواضعا جدًا وخاليًا من أي مشاعر أو قدرات تمثيلية!
كذلك ظهور شخصية “العقيد كواريتش” الشريرة فقط لأنها شريرة!، حتى في الجزء الأول، الرجل كان شريرًا فقط، بعكس الشخصيات الأخرى التي تراوح بين أفكارها وأفعالها، بالإضافة إلى مولد “كيري” عند شجرة الأرواح، ثلاثة شخصيات أوجدت فجأة فقط لخلق قصة لمتابعة عالم باندورا، والواضح أن كاميرون ترك الأمر للمشاهدين بتقبل وجود هذه الشخصيات والتعايش معها دون طرح الكثير من أسئلة.
الجزء الذي أعجبني:
طاقم التمثيل ممتاز في المجمل باستثناء شخصية سبايدر، لكن هناك آداء غطى على الجميع، الممثل Britain Dalton في دور “لواك” الفتى المراهق الغاضب الذي يتعلم دروسه في الحياة بصعوبة، بشكل عام مجموعة الممثلين المراهقين في الفيلم أبدعوا في أدوارهم وطغوا على آداء الممثلين الكبار المحترفين مثل Kate Winslet وStephen Lang. أيضًا لم أتوقع أن تؤدي الممثلة Sigourney Weaver دور الفتاة المراهقة “كيري” ولولا تمييزي لصوتها لظننتها واحدة من طاقم التمثيل الشاب الجديد في الفيلم! لكن يبقى الآداء الأفضل من وجهة نظري للممثلة Zoe Saldana في دور الزوجة “نايتيري” تمثيل وحضور وشخصية مكتوبة بعناية، لا أتخيل آفاتار بدونها!
التجربة السينيمائية هي الهدف:
قد لا يكون “آفتار: طريق الماء” فيلما ثوريًا، لكنه يعد الجمهور بتجربة سينيمائية ترفيهية عائلية، ذات قيم أعلى، كالعائلة والثورة على المحتل، والحفاظ على البيئة، وهذا كله بأسلوب بصري واخراجي باهر ممتع لا ينافسه فيه أي فيلم آخر صدر في السنوات الأخيرة، شخصيًا أمتعني الفيلم للغاية، وقد أشاهده للمرة الثالثة ولكن بتقنية 4D Max.
أخيرًا، خط “Papyrus”:
قرر صناع الفيلم أخيرًا الاستغناء عن خط “Papyrus” الذي أثار الضجة في الجزء كونه خط مجاني متوفر على أي جهاز، ومكانه جاء شعار جديد ممتاز يعتمد على خط Trajan Sans، لكن.. خط Papyrus شهد حضورًا قويًا في هذا الجزء؛ عند استخدام لغات السكان الأصليين، أو عند التواصل تحت الماء، لذلك يمكن لـ Ryan Gosling انتقاده مجددًا 🙂
0 تعليق