في الأعوام القليلة الماضية تكرر على مسامعي هذا السؤال “أين اختفيت؟ لم نعد نرى أعمالك؟” وهذا صحيح، قلَّ ما أنشره بشكل كبير، سواء كان أعمالا في التصميم، أو حتى التدوين الذي كنت مواضبًا عليه في السابق، على الرغم من أنني لم أتوقف يومًا عن العمل والتعلم والتطور! وهذا خلق لدي شعورًا بعدم الانجاز والتراجع وأخذ مني فترة حتى بدأت أستوعب أبعاده.
كيف حرمت الشبكات الاجتماعية المبدعين من إدارك الانجاز الحقيقي؟ مجموعة نقاط هنا تتناول ما أختبره بنفسي وزملائي بحكم التجربة وليس تنظيرًا لغرض التنظير فقط.
لا إنجاز لمن لا ينشر
عزز انستغرام تحديدًا من فكرة ضرورة رؤية ولمس الانجازات، خاصة في القطاع الإبداعي، واقع ضرورة تسويق المبدعين لأنفسهم باتت هي المعيار الوحيد للاعتراف بأن شخصًا ما له حضور وله إنجاز، ومن لا ينشر فهو في غياهب النسيان. وكأنه لا يجب أن ينتمي لهذا العالم طالما لا يشاركنا ما يعمل.
على الرغم من صحة هذه الصورة من الوهلة الأولى لمن ينظر للقطاع الإبداعي – الذي حاليًا بات يختزل فقط في انستغرام – لكنها صورة غير حقيقية وخادعة بشكل كبير.
لدى من يعملون بشكل حر (المستقلون – الفريلانسرز) في المجال الإبداعي أفضلية عن الآخرين بسبب المرونة الكبيرة التي لديهم وقدرتهم على التحكم بوقتهم خاصة في بداياتهم قبل أن تتوسع أعمالهم إن واصلوا، لكن الإشكالية الحقيقية أن الآخرين عددهم أكبر ممن يعملون بشكل حر، بل وينجزون الكثير من الأعمال، بل إن إنجازهم لا يتعلق فقط بالأعمال النهائية التي نراها على حسابات شركاتهم على انستغرام في بضعة شرائح، وبالرغم من ذلك ينظر لهم على أنهم لا ينجزون شيئًا!
يجب إطعام هذا الوحش بالانجازات:
Feed the Beast عبارة تختزل علاقتنا مع الشبكات، لكي يبقى لك حضور ويعترف بإنجازك يجب أن تطعم هذا الوحش الجائع باستمرار وبشكل يومي، يستهلك محتوى الشبكات الكثير من الوقت لإعداده وتصويره وتحضيره، الدفع نحو المحتوى المرئي المصور بات أكثر عن السابق، كما التعامل مع أدوات التحرير المختلفة لتوثيق ونشر الانجازات بشكل يومي لم يعد يترك الوقت الكافي للمبدعين للتركيز على مهنتهم وعملاءهم وفريقهم، يصل الكثير منهم إلى نقطة محيرة بين لقمة العيش أو تغذية حساباتهم بالانجازات حتى يبقو ملاحظين من قبل الجمهور والعملاء المحتملين مستقبلاً!
يأخذ المشروع الواحد عدة أسابيع وربما أشهر من العمل، لكن نشره يتطلب عدة منشورات قصيرة ستختفي خلال ساعات وقد لا تحظى بالزخم الكبير المتوقع لها بسبب تغير خوارزميات انستغرام وفيسبوك من حين لآخر! لكن الوضع أهون هنا مع الانجازات التي يمكن إعدادها على هيئة محتوى مرئي ومصمم، ففي النهاية قد يراها أحد ما.
هناك إنجازات أخرى يستحيل تعليبها ووضعها في تصميم أنيق متحرك لتضعه في وجه الناس وتقول “أنظروا هذا إنجازي“!
إنجازات نشعر بأثرها ولا نراها:
خلال الأعوام الماضية توسعت الوكالة الإبداعية لدينا (العلامة للتسويق) لتعمل على عدد من المشاريع المختلفة بين الكبيرة والصغيرة بين شركات إتصالات معروفة وبين مؤسسات تعليمية ولوجستية مهمة، وأيضًا مشاريع صغيرة في مجال المطاعم والسياحة والضيافة، كَبُر حجم الفريق، وتعددت المهام اليومية، وأصبح تقديم عمل إبداعي للعملاء يغطي كل الجوانب الإستراتيجية والتوجهات الإبداعية والتعامل مع الفرق الابداعية ومشاكلها داخليا وخارجيا، وإدارة استوديوهات التصوير وشركات الانتاج والتعامل مع العملاء والتفاوض اليومي معهم والالتزام بالجودة ضمن الجدول الزمني المحدد أمر لا يمكن لأي شخص حصرها في منشورات ليبقى له حضور يومي!
ينتهي يوم الفرق الإبداعية بإنهاك حقيقي، لكنهم مع نهاية كل أسبوع يرون ثمار تعبهم تلك، فقد يكون إنجازهم حينها إقناع عميل بفكرة إبداعية غير مسبوقة، أو التفاعل المرَحِّب من جمهور العميل بالحملة الإعلانية التي قدموا فكرتها، أو رسالة من قسم الانتاج بالانتهاء من المسودة الأولى لفيديو المشروع الذي عمل عليه على الأقل خمسة أشخاص بشكل كامل، إنجاز الفرد المبدع حينها قد يكون تمكنه من إدارة الفريق في الالتزام بالوقت الزمني المحدد؛ وهذا كله مع الحفاظ على الجودة الإبداعية والتناغم بين الفريق ورغبتهم في العمل مع بعضهم البعض، أو يكون إنجاز المصمم وقتها الاشتراك بدورة مخصصة لحل إشكالية تصميمية معينة في المشروع!
كذلك عدد كبير من الشركات ولطبيعة عملها لا تسمح للوكالات الإبداعية بالتحدث ولا بنشر أعمالها على الشبكة، وهو ما يحرم المبدعين فرصتهم من تسويق أعمالهم والحديث عنها مثلما يفعل الآخرون، فبعد أشهر من العمل المتواصل يخرج العمل إلى النور ويرى المبدع هذا العمل، لكنه أيضًا محروم من الحديث عنه بحكم العقود الذي لا تسمح له بالحديث إلا في نطاق محدود جدًا.
تجعل الشبكات من فكرة الاستمرارية في المجال والالتزام والمحافظة على العملاء وتقديم الخدمات وتحسينها والتطوير الذاتي والنمو المهني المتواصل شيئا ثانويًا طالما أنك لا تنشر ماهو إبداعي أو لا تصرخ يوميًا في حسابك لتوثق هذا الإنجاز الذي يستهلك الوقت والجهد، تعطى الأفضلية لـ “تويتر” و “لينكد إن” في هذا الجانب، لكن التكرار يجعل من الأمر مملاً، وربما يفقد مع الوقت مصداقيته، فلن يصدق أحد أنك فعلاً تقدمت ونموت مهنيًا فقط لأنك كتبت ذلك في تغريدة.
مبدعون مظلومون:
كُتَّاب المحتوى تحديدًا (Copywriters) مقابل المصممين والمصورين يعانون من أن عملهم لا يمكن توثيقه بمنشور جميل على حساباتهم، كون أعمالهم تتداخل مع أعمال الآخرين يصعب لدى الجمهور لمس الجزء الإبداعي الذي قدموه للعمل ككل، ويشعرون أنهم مهما فعلوا فلن يقابل جهدهم بنفس الطريقة التي يقابل بها جهد المصممين والمصورين وغيرهم، وهذا ما يفتقر له إنستغرام فهو يعلي من شأن البعض مقابل البعض الآخر الذي يكافئ جهده جهد الآخرين وربما يتفوق عليه.
قس هذا على أي مبدع تنطبق مواصفاته على هذا النوع من الأعمال، تلك الأعمال التي لها أهمية كبيرة، وتؤثر على حياة الناس ، ولكنها أعمال لا يمكنك لمسها ولا رؤيتها كإنجاز فردي شخصي مهم وموثق!
انجازات خادعة:
تتعلم الوكالات الإبداعية مع الوقت أن الشبكات على الرغم من أنها توفر الفرصة للوصول إلى المبدعين، لكنها ليست المعيار الوحيد هنا، تجد الوكالات عند التوظيف أو التعاون مع المبدعين القادمين من عالم الشبكات تحديا حقيقًا مع جيل يعتمد على هذه المنصات لتقييم إبداعه ومستواه، ويعيش وهم الإنجاز من خلال عدد المتابعين الكثر والإعجابات والمشاركات، فتجد هذه الوكالات نفسها أمام عدد معتبر من مبدعين غارقين في واقع افتراضي كاذب لا علاقة له بالعمل الحقيقي وتحدياته، ولا يعرفون عن طبيعة مجالهم إلا القليل فقط أو ما يساعدهم على الاستمرار في الظهور على تلك المنصات، لكنهم لا يستطيعون اقناع عميل أو إدارة فريق أو إنجاز تصميم كامل من الألف إلى الياء، بالاضافة إلى الافتقار لشخصية اجتماعية قادرة على الانخراط مع أطراف متعددة للعمل معها.
الجزء المظلم من عملية التعلم:
أمر آخر وهو القدرة على المواكبة والتعلم المستمر والصبر عليه، بالرغم من المميزات الكثيرة لانستغرام مثلاً، لكن واحدة من عيوبه القاتلة أن يجعل من الأشياء وكأنها سهلة جدًا، يستسهل الكثير من الناس وليس فقط في المجال الإبداعي فكرة تعلم المهارات من خلال فيديوهات تعليمية قصيرة على هذه الشبكات، ففي حين أنها تفيد بشكل عام، لكن القسم الثاني من التعلم الذي يتطلب المِرَان والتكرار والصبر والتجربة والخطأ والكثير من الملل أمور يتم تجاهلها عند تصوير عملية التعلم بتلك الطريقة المبهرجة، فيتوقف الكثير في أول الطريق حين لا يرون النتيجة السهلة التي كانوا يتوقعونها.
يستغرق الخطاط العربي سنوات طويلة وربما عقودًا من التمرين اليومي والمتابعة مع خطاط محترف دون كلل ليصل إلى مستوى يمكنه معه القول أنه قد أصبح خطاطًا، يستعجل انستغرام ومستخدموه هذه العملية بوضع الخطاطين المبتدئين تحت ضغط الظهور ونشر الانجاز وإيجاد عملاء بأسرع وقت ممكن، كما يضع انستغرام تحديدًا من هو ذو خبرة حقيقة في نفس المستوى مع من هم دون ذلك فقط لأن لديهم متابعون كثر! بل ويخلق لدى البعض وَهْمًا بأنهم أصبحوا أفضل من البقية كونهم يحظون بهذا العدد من المتابعين.
بحكم هيمنة فكرة الظهور والشهرة على تلك المنصات، تؤثر بشكل مباشر على شعور المبدعين الممارسين أمام طوفان ممن يقررون وصف أنفسهم بنفس الوصف الإبداعي، فالكل يصبح مصممًا فجأة، والكل يتحدث عن التصميم والكل ينشر ويحاول الظهور، تفقد الأعمال قيمتها وتضيع وسط المشاركات المهولة ذات المستوى المقبول أو الأدنى، لا يتم التفريق بين العمل الحقيقي الذي أخذ جهدًا وبين العمل الذي تم تقليده وإعادة قولبته ليتماشى مع التوجهات الحديثة (Trends)! يستنسزف المبدعون المحترفون الممارسون لمهنتهم وقتهم في إقناع العملاء بالأسعار المناسبة مقابل خدماتهم أمام الأسعار البخسة التي تغرق السوق على تلك المنصات، ويضيع معنى العمل الحقيقي.
لا ضوء في آخر النفق:
الشبكات الاجتماعية وفرت لنا الفرصة للظهور ومشاركة إنجازاتنا وأعمالنا والوصول إلى أقراننا من المبدعين، والعمل مع عملاء رائعين، لكنها مع الوقت جعلت نفسها محور كل شيء، لم يعد إبداعنا هو الغاية، بل صار تغذيتها بشكل متواصل أمر حتمي للاستمرار، انجازاتنا الشخصية والمهنية محدودة، والشبكات الاجتماعية غير محدودة، مع ظهور أنماط تجارية جديدة كليا تعتمد على بيع “شكل الانجاز” بشكل يومي أثر بشكل كبير على شعور الآخرين ذوي الانجاز المحدود أو الذي لا يمكن إظهاره فوضعهم في خانة المنسيين الغير معترف بهم حتى إن كان ما يقومون به له أثر إيجابي في حياة المئات أو الآلاف، ولا يبدو أن هذا سيتغير في المستقبل القريب طالما يعتمد المبدعون في رؤية انجازاتهم فقط من خلال منشورات انستغرام وتفاعل ومشاركة الجمهور لها.
لك دعوات من القلب على الكلام المؤثر وإلي لامسني ولامس المُعضِلَة إلي أمْر فيها دائماً مع هذي المنصات مع أني أنشر في الانستقرام “فقط” وبشكل متقطع كذلك لتجنب المشكلة لكنها ما انحلت !! ، احسني لما انشر ومع مرور الزمن صرت اكره رسمي ومستواي واكره المجال نفسه ، طاقتي وحيويتي للرسم قَلَّت بشكل ملحوظ جداً لنفس السبب إلي ذكرتَه “عدم التقدير” مع إن عداد اللايكات والمتابعك عبارة عن أرقام وهميه لكنّي اتأثر لما أشوف رسمه بسيطه عليها ألاف الإعجابات ورسمتي إلي تعبت عليها زين يجيها ٢٠ وأنا عارف حق المعرفة إن هذا مو معيار عشان اعرف رسمتي تستاهل أو لا لكن هذي المواقع غسلت ادمغتنا بشكل مو طبيعي وتأثيرها السلبي طاغي طَغَيان على الإيجابي. لازم انشر عشان أجد عمل بالمستقبل ؟ مو لازم ، لو إني مهتم قبل التقديم لشركة بروح اجمَع افضل ما قدَّمت في مسيرتي وأعرضه للشركة ولو هي “صج” مهتمه فيني راح تقبل بدون أي عوائق (رغم إني ما أنكر إن السوشل سَهّلَت هذا الشيء).
وسالفة التطور هذي بروحها سالفة ، والله إني أعاني معاها واجد لأنك لما تشوف الرسومات على انستقرام تحس الموضوع سهل وبسيط لكن والله انه مو بسيط وممكن حتى ياخذ منك “سنين” من الجهد والمثابرة والصبر عشان بس تحققه ، قام يجيني شعور (ليش ما تتطور بسرعه ؟ انت ليش بطيء؟! تبي يفوتك القطار والكل يتقدم عليك ؟ ، هل تسمي مستواك هذا شي يستاهل أمام تقدم الآخرين ؟) السالفة تطول ومحنا خالصين (: .
ادري البعض بيكون تراك كَبَّرت الموضوع لكن والله هذا إلي أمْر فيه ما اتغشمر (لا أمزح) ابداً.
لازم أحط حد لهذا الأمر وبتوقف إني أنشر رسوماتي ، الموضوع صعب علَيّ لأني أحب أشارك وأوَرّي الناس إبداعاتي لكن هذا أقل الأمَرّين (ترك الرسم أو التوقف عن النشر) ، ومابي يجي اليوم إلي أقول فيه “تركت الرسم”.
الرسم يعَبّر عني وعن إلي بقلبي ، مو لازم رسوماتي تحوي أفكار أو فلسفات لا ، لكن بعد اكتشافي للموهبه هذي حسيتها جزء “مني” ومابي افقده ..
كلام جداً جميل وفي الصميم واعتقد هذا حال جميع المصممين والمبدعين الحقيقيين، شكراً لك على هذا الطرح المفيد والملامس للواقع
مقال ممتاز أخي عصام وأحييك على تسليط الضوء عن معاناة الكتّاب
دمت مبدعا
سررت بلقائنا في يونس توك وأرجو أن نوفق ونجري لقاء آخر معًا إن شاء الله
هل ستشارك في مسابقة تصميم شعار سوناطراك ما دمت جزائريًا؟
كل الشكر والتقدير لك عزيزي يونس على المحتوى الغزير الذي تنشره على الرغم من كوني قارىء صامت 🙂 وأتمنى أن نلتقي قريبا.
مع الأسف لا أثق في مسابقات الشعارات، ومن وجه الخبرة التي كونتها، المؤسسات والشركات الكبيرة يجب أن تتوقف عن طرح المسابقات؛ كونها ليست الممارسة الصحيحة لصناعة الهوية البصرية، والتجارب كلها تثبت ذلك.
فهمت وجهة نظرك وأنت الخبير هنا. أشكرك مرة أخرى