في القطاع الخاص وفي وقتنا الحالي يمكن لأي شركة أن تصنع منتجًا خاصًا، أو تقدم خدمة جديدة مختلفة عما يقدمه الآخرون، الاشكالية أنه سرعان ما ستنسخ شركات أخرى نفس المنتج أو الخدمة وتقدمها، وهو ما يصعب عملية الاختيار على العملاء، خذ على سبيل المثال شركة “OpenAI” التي أطلقلت ChatGPT وأحدثت طفرة في الذكاء الاصطناعي، لم تمر أشهر قليلة فقط حتى بدأت شركات كبرى بمنافستها وإطلاق خدمات مشابهة ومطابقة، لذلك التحدي ليس فقط في المنتج/الخدمة، بل أيضا في التميز عن البقية.
فلم يعد الأمر مقتصرًا على المنتجات عالية الجودة أو الخدمات الاستثنائية – وهي الجوهر في كل الأحوال – لكن أيضًا صناعة علامة تجارية تنفرد عن البقية وتساعد العملاء على الاختيار، والمحافظة على صورة هذه العلامة باستمرار مع الالتزام بتقديم نفس المستوى في كل مرة, وهو ما يفصل الشركات العظيمة عن الشركات مقلِّدة، هذا ما يدفع الناس لاقتناء منتجات عالية السعر عِوض شراء منتجات مشابهة زهيدة السعر كالساعات على سبيل المثال، أو أن تكون لبعض الشركات حصة السوقية أعلى عن البقية، وحتى بعض الشركات ترتفع مبيعاتها خلال أوقات الركود الاقتصادي؛ هذا كله يعود بالدرجة الأولى إلى الارتباط العاطفي الذي أوجدته العلامة التجارية المدروسة بعناية لدى الجمهور المستهدف، فهم يدفعون لهذه الشركات لأجل لأسباب عديدة؛ كسعيهم للمكانة والهيبة والتعبير عن الذات وغيرها من الأشياء التي تشعرهم بالرضا.
- كل من شركة كاسيو وباتيك فيليب تقدمان نفس المنتج “ساعات يد” لكن فرق الأسعار بينهما هائل، وأيضًا المكانة التي تقدمها ساعات باتيك فيليب أعلى بكثير منها لدى كاسيو
عندما يتعلق الأمر بالقطاع العام فإننا نستخدم مصطلح “هوية تسويقية” بدلاً من علامة تجارية، هذه الهوية التسويقية التي لم تعد ترفًا أن يتبنى القطاع العام مفهومها وأن يخصص الموارد له، وأنه لم يعد مقتصرًا على الترويج السياحي فقط، فالترويج السياحي في حد ذاته متشبع جدًا بين الدول، فالهويات التسويقية للقطاع العام الآن تحتاج إلى ما هو أكثر من السياحة والترفيه، وأن تتقاطع مع استراتيجية وطنية واضحة، والجميل أن الأمر بات واضحًا في السنوات الأخيرة لدى عدد من الدول في المنطقة العربية، لأن الأمر ببساطة أنه كلما كان لديك جمهور تستهدفه، وكلما كان لديك أصحاب مصلحة تتعامل معهم سواء كانو موظفين أو شركاء، فإن صورتك في ذهنهم هي أمر يتوجب عليك أخذه بجدية.
- أطلقت جمهورية البيرو هويتها للتركيز على جلب الاستثمار والسياحة الخارجية، والأهم تغيير النظرة إليها بأنها دولة فرص واعدة، لكن هويتها التسويقية كانت تتحدث بلسان البلاد وثقافة شعبها
عدد لا يحصى من الأسباب
هنا عدد من الأساب التي يضعها بول تيمبورال عن لماذا يتوجب على القطاع العام اعتماد هوية تسويقية له، بالإضافة إلى أسباب أخرى أضيفها بناء على تجربتي المهنية:
أولا،
للتموضع وللتميز عن بقية الدول، تمامًا مثل الشركات في القطاع الخاص حيث تسعى كل شركة لتمييز نفسها عن شركات أخرى تقدم نفس المنتج، يمكن لشركة معينة أن تقدم نفس المنتجات والخدمات وحتى الأسعار التي تقدمها شركات منافسة أخرى، لكن هذا سيضعها في نفس المستوى مع البقية، ولذلك وجدت الشركات أن تقديم سعر أقل ليس الحل الأمثل للوصول إلى الجمهور المستهدف، بل بابتكار قيمة مضافة لهذا الجمهور، ببناء صورة قوية للعلامة التجارية.
وما ينطبق هنا على الشركات ينطبق على القطاع العام، وأبسط مثال على ذلك حينما يفكر الناس في أين يقضون عطلتهم، أو أين يودون السفر للدراسة وإكمال تخصصهم الجامعي؟ فأغلب الدول تروج لنفسها سياحيا، وتسعى لجلب الاستثمارات الأجنبية، لكن ما الذي سيدفع الجمهور للزيارة تلك البلاد دونًا عن غيرها من البلدان التي تروج لنفس الشي، هنا يأتي دور الهوية التسويقية والقيمة المضافة التي تحدثها.
ثانيا،
السمعة السابقة لم تعد كافية لأن تحقق المطلوب، خاصة مع عالم متغير باستمرار يجعل من الاعتماد على السمعة السابقة مخاطرة قد تحرم القطاع العام من فرص جديدة، مثلاً كندا بدأت تحاول تغيير نظرة الجمهور لها من أنها وجهة تعليمية وسياحية، إلى دولة متطورة في القطاع التكنولوجي والغذائي ولاعب قوي فيه. نيوزيلاندا لا تريد أن ترتبط فقط بالمواشي والمراعي الخضراء ورياضة الروجبي، بل تريد أن ترتبط ذهنياً بصناعة الأدوية وأنها لاعب قوي في التطور الصحي، بريطانيا أيضًا لا تريد أن ترتبط بالتقاليد العتيقة والتاريخ، بل بالابتكار وأن تكون بلدًا مرحبًا ومتماشيًَا مع التوجهات الحديثة. وحتى قد تكون السمعة السابقة عائقًا أمام البلاد للتقدم والازدهار.
- أسست قطر مكتب الإتصال الحكومي، الذي أطلق هويته لهدف تعزيز الثقة في الحكومة القطرية والقطاع العام ككيان واحد ومتناسق، في حين أعادت قطر إطلاق هويتها التسويقية للبلاد لتكمل مشهد التعاون هذا.
ثالثًا،
بات واضحًا أن الهويات التسيوقية للقطاع العام من الناحية الاستراتيجية تجلب القوة السياسية والمالية للبلاد، وتؤثر على القرارات السياسية الدولية وتجلب الاستثمارات الأجنبية والمواهب العالمية وغيرها.
رابعًا،
شاء القطاع العام أم أبى فهو لديه صورة مسبقة في ذهن الجمهور، وعليه أن يقرر ما إذا كان سيتحكم بهذه الصورة أم لا؟ قد تكون هذه الصورة سلبية أو إيجابية أو خليط بينهما، لذلك من الأفضل أن تتحكم بهذه الصورة وتديرها وتستفيد وتعزز الجانب الإيجابي منها، وتخفف من السلبي أو تزيله، بدلا من أن تدير هذه الصورة جهات أخرى للتحكم بك.
خامسًا،
بناء الهوية التسويقية كممارسة يجعل كل المنخرطين في عملية بناءها أو إدارتها وحتى جمهورهم المستهدف يتحدثون لغة واحدة، برؤية واضحة وهدف محدد، عملية بناء علامة تجارية وإدارتها تضع كل المؤسسات والأفراد على خط واحد والجميع واعٍ به، أيضًا تزيد الهوية التسويقية الواضحة من ولاء الجمهور العام وتقديم دعمه المعنوي لها حتي في أوقات الأزمات.
سادسًا،
يمكن لهوية الدولة أن تشكل وتعزز من الهوية الوطنية، يمكنها التركيز على التراث الثقافي والقيم والإنجازات والطموحات للبلاد، وبذلك تثير الفخر والوحدة بين المواطنين وتشجعهم على الاعتزاز ببلدهم، والمشاركة في مبادرات بناء الدولة، والمساهمة في تنميتها. وهو ما بإمكانه تقوية التماسك الاجتماعي ويعزز الشعور بالهوية الجماعية.
هنا أسباب أخرى رئيسية
- زيادة الاستقرار للعملة المحلية.
- تحسين المصداقية العالمية تجاه الدولة، وزيادة ثقة المستثمرين
- جذب رأس المال العالمي
- زيادة التأثير السياسي للدولة عالميًا
- زيادة الجذب السياحي والاستثمارات المحلية والخارجية
- تطوير شراكات دولية أقوى.
- تغيير التقييمات العالمية السلبية تجاه الدولة
- تغيير الرؤية السلبية لدى الجمهور العالمي تجاه قضايا مثل البيئة وحقوق الانسان داخل الدولة.
تجارب نراها:
كمثال واضح يحدث الآن أمامنا، نلاحظ أن المملكة العربية السعودية عملت في السنوات الأخيرة على إعادة صياغة هويتها التسويقية وتموضعها عن تلك التي سبقت العام 2016، بالإضافة لاستعدادها لمرحلة ما بعد النفط، ويتضح جليًا أن أهم ما تركز عليه المملكة هو تغيير الصورة النمطية التي لازمتها لعقود طويلة، بأنها ليست دولة نفطية فقط، بل دولة منفتحة ذات مصادر دخل متنوعة، بالاستثمار بقوة في القطاع الثقافي والترفيهي موجه للجمهور الداخلي ودفعه للانفتاح على التجارب الثقافية والترفيهية، والجمهور الخارجي واستقطابه، وهو ما بدأ نوعًا من تشكيل قوة ناعمة كالتي ميزت دولاً أخرى مثل مصر واليابان على سبيل المثال.
- لم يكن لثقافة كوريا الجنوبية، وأغانيها ومسلسلاتها أن تكون حلما لكل المراهقين حول العالم إذا لم يكن هناك هوية توسيقية قوية تقف وراءها بمتابعة رئيس البلاد نفسه
كوريا الجنوبية أيضًا أحدثت الفرق عندما أطلقت المجلس الرئاسي للهوية التسويقية الخاصة بها في العام 2009 والذي كان هدفه تحسين سمعة وصورة البلاد التي كانت تحتل وقتها المرتبة الـ13 في الاقتصاد العالمي ولكن سمعتها وتقييمها كانا سيئين، فأطلقت مجلسها التابع لرئاسة الدولة بشكل مباشر، وبدأت تستثمر في الجانب الثقافي والترفيهي والذي كان من نتائجه بروز ثقافة الـ K-Pop والمسلسلات الكورية الشهيرة، وأيضًا دفع شركات القطاع الخاص الكبيرة مثل سامسونج وهيونداي وغيرها لأن تعمل مع المجلس بشكل وثيق لتحسين سمعة البلاد، ونحن نرى كيف نالت سامسونج من آبل في منافسة عالمية لا تزال مستمرة إلى الآن، والسبب الرئيس هو قرار البلاد الاستثمار في هويتها التسويقية.
—–
0 تعليق