في الفترة الماضية سجلت وزميلتي فرح العدوي في دورة على الشبكة مدتها عشرة أسابيع، جلسة كل أسبوع مدتها ساعتين إلى ثلاث والجلسات الأخيرة وصلت لأربع ساعات، الدورة كانت تتعلق بتصميم الخطوط الطباعية، أعلنت عنها مصممة الخطوط الشهيرة نادين شاهين، التي وبدون مبالغة تعتبر من أهم مصممي الخطوط في وقتنا الحاضر، وعلى الخصوص عملها على مزاوجة الخطوط العربية بالخطوط اللاتينية الشهيرة مثل خط Helvetica، Din next، Frutiger، Palatino، Universe، وغيرها الكثير من الخطوط الناجحة والتي لا تزال تعتبر معيارًا في توجهات التصميم عموما والهويات البصرية خصوصاً.
الدورة كانت موجهة بالأساس إلى المبتدئين في المجال، والذين أغلبهم من مصممي غرافيك يسعون إلى إضافة مهارة ومعرفة جديدة لهم أو تغطية النقص لديهم في هذا التخصص، وبحسب ما عرض المشاركون فقد كان هناك اختلاف في الأسباب، شخصيا كان سبب التحاقي بالدورة تلبية طلب خاص في أعمال الهوية التي لدي، حيث وددت دوما استخدام خطوط بصفات معينة تتماشى مع شخصية الهوية التي أعمل عليها، بالخصوص الهويات الموجهة لقطاع المطاعم والفنادق والخدمات ذات المستوى العالي، أو لبعض المؤسسات الحكومية والخاصة.
في بداية الدورة، وكونها موجهة للمبتدئين فقد كانت هناك ضرورة لوجود مدخل لتاريخ الخط العربي، تطوره والأساليب المختلفة التي تفرعت وانفصلت لتكون لها مميزاتها مع الوقت، فهم هذه النقطة هو الأساس لفهم بناء الخط العربي، كان هناك فصل واضح بين الخط الكوفي وخط النسخ، توضيح بين خطوط العناوين وخطوط النصوص، يميل الخط الكوفي لأن يكون الخيار الأنسب للعناوين، والنسخي البسيط إلى الخيار الأمثل للنصوص والفقرات الطويلة.
قدمت نادين عرضًا موجزًا لرسالتها في الدكتوراه حول الوضوح في قراءة خط النسخ؛ إن لم تخني ذاكرتي وتركيزي فقد تناولت الرسالة االوضوح في الخط العربي وسهولة القراءة، حيث وضعت ثلاثة مستويات لتصميم الخط العربي النسخي، أولها بسيط، والروابط بين الحروف فيه بسيطة للغاية، وآخر بروابط معقدة قليلا تضفي عليه جمالية أكثر، أما الأخير فبروابط واحتمالات جمالية أكثر ومعقدة أكثر في كتابة الخط النسخ العربي (تابع النموذج بالأسفل)، وتمت تجربة القراءة مع مجموعة دراسة لتحليل مدى الوضوح وسرعة القراءة وسهولتها وتوثيق النتائج، كلما كانت الروابط بين الحروف أبسط كلما كانت القراءة أسرع وأسهل، والعكس.
كانت الدورة مقسمة إلى جزئين، أحدها بفهم الخط الطباعي العربي، ودراسة الحروف فيه من حيث هيكليتها والتناسق العام بين الحروف (لكل من الخط الكوفي وخط النسخ)، والجزء الآخر كان يتعلق بتعلم برنامج Glyphs App على أجهزة الماك (التي لا زلت لا أطيقها)، البرنامج وللغرابة وجدناه في رسم المنحنيات سهلا ويتفوق على Illustrator بمراحل، وهو أمر منطقي كونك بحاجة إلى رسم عدد معتبر من الحروف وعلامات الترقيم والأرقام وغيرها من التفاصيل، وميزة المنحنيات فيه أنها أكثر سلاسة وفهمًا لما ترغب في رسمه، ففي حين أن رسم حرف الحاء من خط النسخ على Illustrator قد يستلزم مني عشر دقائق لضبطه، قد أنتهي منه خلال ثلاثة أو أربعة دقائق على Glyphs!
بالنسبة لدراسة هيكلية الحروف أظنها من الأشياء فتحت عيني على طريقة رؤية الحرف العربي، واستنباط خطوط جديدة فقط من خلال دراسة وتحليل أي خط أراه مناسبًا، نحن نرى الحروف في الخط من خلال سمكها وارتفاعها وعرضها وهو ما يخلق لديها تلك السمات التي نشعر بها عند مشاهدتها، لكن ماذا لو أزلنا كل هذه التفاصيل وركزنا على الهيكل الأساسي الذي بني عليه الخط؟ ماذا لو قررنا إعادة هندسة ذلك الهيكل لنخرج بخط جديد؟ شخصيًا اخترت خط GE Heritage One كنموذج، البعض الآخر اختار نماذج من مخطوطات قديمة لدراسة حروفها.
خلال التنقل بين تعلم هيكلية حروف الخطوط العربية وبين الجانب التقني لبرنامج Glyphs App، بدأ المشاركون في الإعداد لتصميم خطوطهم الخاصة، وهذا كان من خلال كتابة ملخص تعريفي للخط الذي نرغب في تصميمه، وكوني أعمل في تصميم الهويات البصرية فقد وجدت الأمر مقاربًا نوعًا ما:
فأهم هذه النقاط تحديد وظيفة الخط الذي ترغب بتصميمه، هل سيستخدم للعناوين؟ للاقتباسات؟ للنصوص؟ هل سيخصص للأماكن العامة حيث يسهل على الناس قراءته؟ أم هل سيصمم لعناوين الكتب حيث يتميز بتفاصيل أكثر وجمالية أكثر؟
نقطة أخرى يتوجب كتابتها في الملخص التعريفي، وهي شخصية هذا الخط كيف ستكون؟ بالتحديد كما نفعل عند تصميم الهويات البصرية، شخصية الهوية يمكنها أن تحديدها من خلال الألوان، واختيار عناصر التصميم وتركيبها، في تصميم الخط الطباعي يحدث نفس الأمر، يمكنك عند مطالعة خط ما أن تقول عنه مثلاً أنه “خط قوي، واضح، صارم” أو “أنيق، يشعرك بالهدوء والانسجام” أو “عملي، واضح ولطيف”، شخصيًا النموذج الذي وددت الوصول إليه يتوجب أن تكون شخصيته “أنيق، رسمي، مع بعض من الصرامة”.
نقطة أخرى مفيدة عند إعداد الملخص التعريفي هي وضع نماذج مرجعية، أو نماذج لخطوط تعتمدها كأساس للانطلاق في تصميم خطك، بين الاعتماد على أحد أساليب الكوفي أو أساليب النسخ بكل ما يحتويانه من تنوعات وخيارات لا يمكن حصرها.
من الأشياء التي راقتني في الموضوع هو الطريقة البسيطة لنادين شاهين في البدء للعمل علي خط جديد، في حين أن مجال تصميم الخطوط عليه هالة تجعل المصممين يهابونه، ترى نادين أن البدء بفكرة الخط يتوجب أن تكون عفوية وتأخذ وقتها، وأن الخط الذي ستعمل عليه سواء لنفسك أو للعميل ليس بالضرورة أن يم بشكل علمي دقيق، دع الأشكال والحروف وطريقة رسمها تجول في خيالك وتتشكل مع الوقت، ثم يمكنك لاحقا رسم عدد من تلك الأشكال والحروف على الورق أو مباشرة على البرنامج إن أردت، لكنك طبعًا تضع في الحساب الهيكل الأساسي الذي تود بناء الخط عليه، وكذلك الأداة التي تستخدمها في كتابة الخط وتأثيرها في عملية الاستكشاف الأولية تلك، فالكتابة بقلم البوص تختلف عن عن الكتابة بأقلام اللباد أو الفرشاة أو حتى قلم الرصاص، وهو أمر قد ينعكس بالتأكيد على تفاصيل مثل الجانب السميك والرفيع للخط وبالتالي علي النتيجة النهائية.
الآن بعدما أنهيت كل هذه النقاط المتعلقة بتحديد نوعية الخط الذي أرغب بتصميمه، تبدأ مرحلة التصميم نفسها، تختلف العملية من شخص لآخر، شخصيًا بدأت العمل على دفتري بالرصاص، لكنني لم أستمر طويلاً فبمجرد ما وضحت لي بعض الحروف، حتى انتقلت للرسم على برنامج Glyphs، وأيضًا لأستغل وقتي أكثر في تعلم البرنامج بشكل أفضل من تضييع الوقت في الاسكتشات.
يمكنك برنامج Glyphs من استحداث – Generate – قائمة بالحروف العربية الأساسية مع علامات الترقيم والتشكيل، والجميل أنك لست بحاجة لرسم الحروف المتشابهة في كل مرة، فمثلاً يمنحك البرنامج إمكانية رسم الشكل الأساسي لحرف الباء بدون النقطة، هذا الشكل تلقائيًا سيعتمده البرنامج لحرفي التاء والثاء، وبنفس الشكل مع حروف الحاء والجيم والخاء، الصاد والضاد وغيرها، أيضًا يمكّنك البرنامج من تصميم وحدات معينة ومن ثم ادراجها في ضمن حروف أخرى، تخيل مثلاً أنك صممت الشكل الأساسي لحرف النون بدون النقطة، في خطوط معينة يمكنك اعتماد هذا الشكل لنهاية حرفي الصاد والضاد، وأي تعديل على شكل النون سيحدث تلقائيا من نهاية حرفي الصاد والضاد، وهناك الكثير من التفاصيل التي يعج بها البرنامج والتي هدفها في النهاية تسهيل عملية تصميم الخط، هذه التفاصيل التي أخطط للحديث عنها بالتفصيل عندما أتمكن من البرنامج أكثر وأكثر.
المرحلة الأولى:
عودة للخط الذي بدأت العمل عليه، شخصيًا لم أرغب بتضييع وقتي في تصميم خط معقّد، لذلك فضلت تصميم خط عناوين كوفي حديث وبسيط مألوف لعين المتلقي، ورغم ذلك واجهت بعض التحديات؛ منها كيف أصمم حروفًا متناسقة فيما بينها بأقل وقت ممكن، فالسهولة في رسم حروف الباء والألف والراء يقابلها صعوبة عند العمل على حروف مثل الميم والعين والواو، وكون الأمر ليس علميًا تمامًا؛ بل يعتمد على نظرتك وممارستك وقدرتك على جعل الحروف متناسقة فيما بينها، فقد وجدتني أرسم الحروف وأعدلها عشرات المرات، وبعدما أظنني انتهيت منها، أجدني أعود إليها لتعديلها مرة أخرى، كل هذا وأنا لا أزال في المرحلة الأولى فقط من تصميم الخط، فالمرحلة الأولى هي رسم الحروف الأساسية فقط، ومحاولة جعل الحروف تنتمي إلى بعضها قدر الإمكان، سواء في السمك آو الارتفاع، حروف مثل الميم والفاء والقاف والواو يتوجب أن تظهر وكأنها من عائلة واحدة، وهو ما ينطبق على الحروف التي تتقارب فيما بينها، كاللام والنون ونهايات النسخة المفردة من السين والشين والصاد والضاد. أيضًا وجدت أن حرف الياء هو من أصعب الحروف في رسمه وضبطه!
المرحلة الثانية:
حالما تنتهي من تصميم الحروف الأساسية للخط تأتي الآن المرحلة الأكثر إرهاقًا وأطولها رسم الحروف يعتبر سهلاً مقارنة بمحاولتك تشكيل كلمات وجُمل لمعرفة الخلل في الخط الذي صممته، فالمساحات بين الحروف تشكل فارقًا مهمًا هنا، ما يتطلب بعض الخدع البصرية، فمثلاً المسافات بين حرفي اللام والألف وكونهما حرفان مرتفعان تكون أبعد قليلاً عنها في المسافة بين حرفي الدال والحاء، حيث أن تلك الانحناءات في الدال والحاء توحي للمشاهد بأن هناك فارغًا كبيرًا، لذلك يتوجب جعل المسافة بينهما أقصر؛ فلو وضعت مثلا 30 نقطة بين الألف والحرف الذي يليه، فقد تكون المسافة 25 نقطة في الدال والصاد والحاء، ،وهكذا من خلال عشرات المرات من التعديل والمراجعة حتى يبدو لك الخط متناسقًا أكثر مع الوقت، وحتى تبدو المسافات بين الحروف وكأنها واحدة.
أيضًا قد يتحتم عليك في هذه المرحلة إعادة تصميم بعض الحروف من الصفر، فقد يكون الحرف جميلاً وجيدًا بشكل منفصل، لكنه غير عملي إذا وضع في كلمة أو جملة، بالاضافة إلى هذا سيتطلب الأمر منك اتخاذ قرارات تصميمية بمفردك حيث تقرر كيف يبدو حرف معين، كمثال حرف العين في منتصف الكلمة هو غيره عن العين في البداية، شخصيًا اتخذت قرار جعلهما بنفس الشكل، قررت أن أسرع من العملية ولم أرغب في تصميم حرف العين الذي وسط الكلمة، على أمل أن أعيد تصميمه في النسخ القادمة من الخط. هذا النوع من القرارات سيتكرر أمامك طوال الوقت.
خلال الجلسات التالية لانطلاق المشاركين في تصميم خطوطهم، كانت نادين تمر على كل مشروع لتراجعه أمامنا، ما جلعنا نستفيد من تجارب وأخطاء بعضنا البعض لتحسين خطوطنا أكثر، والملاحظات التي قدمت كانت بين الجانب التقني لبرنامج Glyphs وبين الجانب الفني والنظري لتصميم الخطوط الطباعية، وربما أكثر ما استفدت منه هنا هو ربط الحروف بعضها ببعض والاختصار الذي يقدمه البرنامج لللغة العربية خلافًا عن اللغة اللاتينية، حيث في العربية لكل حرف أساسي هناك نقطة دخول ونقطة خروج، بمجرد أن تضبطها في كل حرف تستطيع كل الحروف أن ترتبط بسهولة من خلال ربط نقطة الدخول بنقطة الخروج، الكلام هنا يبدو معقدًا بعض الشيء، لذلك آمل أن أستطيع الحديث عنه بتفصيل مستقبلاً.
في النهاية كان هذا هو الخط التي صممته خلال هذه التجربة القيمة مع نادين شاهين، النسخة العربية فقط مع علامات الترقيم، لست راضيًا عنه بكل تأكيد وبه العديد من الأخطاء، لكنه بداية لشيء انتظرته طويلاً. يبقى علي إطلاق اسم للخط، هل لديك أي اقتراح؟
تدوينة عظيمة ومشاركة لتجربة ثرية قل نظيرها..
الخط جميل جدا.. أقترح تسميته (عصام) على اسمك. ما رأيك؟
شكرًا عزيزي واثق،
وكأنك تقول ما أفكر فيه، احترت في الاسم، وأجدني أميل لاختيار اسمي 🙂
This is such an amazing write-up of the course! Thank you so much and am glad you enjoyed it and learned so well
تجربه جميله ومدونة مثريه بالمعلومات.. اشكرك
اقترح تسمية راسم ،الاسم جميل وتخليد للفنان راسم وكذلك له علاقه بالفن والرسم الخ
تدوينه رائعة
هل الدورة لنادين كانت باللغة العربية
الورشة كانت بالانجليزية فاطمة